المبدع هو إنسان أوتي القدرة والملكة فهو يستفيد من قدراته الخاصة وملكاته ومواهبه ومن كل ما يحيط به من عوامل بيئية وظروف اجتماعية متعددة بالإضافة إلى ما يستطيع الإلمام به من تراث وثقافة وعلم ليمزج هذا كله ثم يعيد تكوينه على شكل عملية إبداعية خاصة به …… قد يعمد إلى المحاكاة وتقليد أعمال الآخرين ولكنه يعمل على إعادة صياغة بعض الأفكار أو المواضيع بطريقته وحيث يضع عليها لمساته الإبداعية الخاصة به والتي لايمكن لشخص آخر أن يتمكن من وضعها بنفس الطريقة وبنفس الشعور والإحساس الفني .
… وارتباط الإبداع ببعض مظاهر المرض النفسي … له شواهد كثيرة ، فكثير من المبدعين يعانون من مشاكل نفسية أو من أعراض الإكتئاب الشديد أو عمد التواءم مع البيئة وقد ينتهون نهايات مؤسفة ، وبعضهم يلجأ للانتحار أو قد يصاب بالجنون وذلك من الأمور العروفة في تاريخ الأدب والفن .
ولأن المبدع إنسان قبل أن يكون مبدعا فهو يسعى إلى الشعور بتفاعل الآخرين معه ومع إبداعه. ذلك إن جوهر الإبداع وغايته هو البحث عن اتصال حقيقي مع المبدع والعالم المحيط به والتفاعل معه وهو يرغب في نقل تواصله هذا مع العالم إلى الآخرين ممن هم حوله والذين لايشعرون بمثل ما يشعر، ولايستطيعون التعبير عن ذواتهم كما يستطيع هو .وهو أيضا يريد أن يرى أثر إبداعه على الآخرين وإحساسهم به وتقديرهم لما استطاع تتقديمه إليهم من عمل فني جميل. وقد يبالغ المبدع في تقدير نفسه وتقدير عمله الفني ويصيبه الإحباط والأسى حين لايشعر بالتقدير الكافي لما يقدمه من انجازات إبداعية
والمبدع كمبدع تتكون لديه مواهبه وقدراته الإبداعية نتيجة لظروف متعددة إذ أن المبدع ما هو إلا نتيجة أو حصيلة لعوامل وراثية واجتماعية ونفسية وتاريخية تساهم كلها في بزوغ هذا المبدع ووجوده وهو بالتالي لا يستطيع أن يعزل نفسه عن طبقته الاجتماعية رغم شعوره الذاتي بالتفرد والتميز … وقد يتعرض هذا الفرد المبدع إلى عوامل عديدة تحد من إبداعه وقد تؤدي إلى انسحابه وانطواءه على ذاته … واهماله لقدراته الإبداعية وهذه أكبر خسارة يصاب بها المجتمع الذي ينشأ به الفرد ذلك أن الفرد المبدع هو أحد عوامل رقي مجتمعه وكلما ازداد عدد المبدعين في مجتمع ما كلما ارتفع مستواه وازدادت قيمته في نظر المجتمعات الأخرى … وقد لا يحارب المجتمع الفرد المبدع صراحة ولكن يضع قيوداً كثيرة على مجال إبداعه مما يؤدي إلى تثبيط همته .. والحد من حماسه ونشاطه الإبداعي … وقد تؤثر بعض الظروف الخاصة بالمبدع أو الأزمات الاجتماعية المتعددة على حالة المبدع النفسية فيصاب بالاكتئاب أو بعض الأمراض النفسية خاصة لدى المبدعين الحقيقيين الذي قد يصل بهم عبقريتهم في مجال الإبداعات المختلفة إلى حافة الجنون أو إلى دفعهم إلى أنواع مختلفة من الأمراض النفسية أو العصبية …. وبعضهم قد يتخلص من حياته أو يحاول تدميرها بطريقة أو بأخرى والأمثلة على جنون بعض المبدعين أو غرابة تصرفاتهم أو على نهايتهم التعيسة ليست بعيدة أو غريبة عنا .
وهذا يجعلنا نفكر في موضوع العلاقة بين الإبداع والاضطرابات النفسية والجنون فمهما قيل من أن هذه الاضطرابات النفسية هي التي تؤدي إلى الإبداع أو أن الإبداع عملية قد تؤدي بالمبدع إلى الجنون فإن هذه الافتراضات لا يمكن أن تكون حقيقية ففي مجموعة من الدراسات الحديثة الشاملة بهذه القضية استبعد كيسيل (1989) تماماً أي علاقة ارتباطيه بين الإبداع وبين المرض النفسي ، بينما يفترض سلايدر
(1979) أن وجود الاضطراب النفسي في الشخصية المبدعة لا يمكن أبداً أن يؤدي إلى الإبداع أو يكون سبباً له، ولكن قد يساعد على اختيار المادة الإبداعية أو يعطي نكهة لها وذلك لأن المعاناة النفسية تسهم في توضيح الصورة بإفراغ الشخصيات الانفعالية المتوهجة .
ولكن الإبداع ذاته لا يمكن أن يصدر عن حالات الضعف والوهن والاختلاطات الذهنية إن الإبداع إنما هو نتاج لحالة من القوة والصحة والتكاسل النفسي .
لعل ما يدفع معظم المبدعين إلى الشعور بنوبات الاكتئاب والاضطرابات النفسية المختلفة التي قد تتطور إلى حالات حادة مثل فان جوخ وهيمنجواى وغيرهم من المبدعين الذين انتهت حياتهم بالانتحار هرباً من حالات الاكتئاب الشديد . إنما هو ما يشعر به الفرد من مشاعر العزلة والوحدة في مجتمع قد يرفض وجود مثل المبدع أو لا يحتفي بإبداعاته أو تناقض مبادئه وأفكاره مع أفكار المبدع مما يجعله يشعر بالاغتراب والقلق وأحياناً الاضطهاد وعدم الاعتراف بمواهبه .
أن عدم التوافق بين المبدع ومجتمعه هي إحدى القضايا المهمة التي تلعب دوراً كبير في التأثير على المبدع والتي قد تعطل نشاطه أو تحد منه أو تصيبه بحالة من الاكتئاب الشديد . وقد يكون للمبدع من الشجاعة الفكرية ما يمكن من التغلب على كل حالات القهر والاضطهاد التي تمارسها بعض المجتمعات ــ كالأنظمة الشيوعية السابقة كمثال ــ أو عدم الفهم والتقبل من المجتمع بسبب غرابة المبدع وتفرده بصفات وأفكار مختلفة عن ما تعود عليه الآخرين حينها قد يستطيع هذا المبدع أن يواصل إنتاجه بهدوء وسلام . ولعل حساسية المبدع الشديدة وإحساسه بتفوقه على الآخرين وتفرده … وكذلك مزاجه المتقلب هو الذي يوحي إليه بعدم الشعور بالراحة أو الاغتراب وهو بين أهله وجماعته .. وهذه قضية أخرى يعاني المبدع من جرائها .
خير مايقوم به المبدع هو أن يتفرغ لإبداعاته ويكرس جهده من أجل توطيد رسالته الإبداعية … وأن يقيم علاقة جيدة بينه وبين المتلقين في مجتمعه ، وأن يبذل جهده للتواءم مع ذاته ومع الآخرين حتى لايصبح فريسة للهموم أو يصل إلى مرحلة اليأس أو يتعرض لأي اضطرابات ذهنيّة تؤثر على مسيرته الإبداعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق