"وظيفة الرواية الأولى تتمثل في اكتشاف التجربة البشرية،وهي وظيفةلا يمكن أن تقوم بها أشكال التأويل الأخرى" هذا مايقوله ميلان كونديرا.
كما أنها "تقول ما لا يمكن أن يُقال بطريقة أخرى "، حسب تعبير كارلوس فوينتيس ،وهي بإتساعها وامتداد عوالمها واشتباكاتها مع تحولات المجتمعات وتغيراته ، وبحكم انفتاحها على كل أنواع التجريب ، تظل أفضل طريقة للبوح وترميم الذات، أوللإحتجاج ضد قوانين مجتمع قامع مسيطر .. هذا يجرُّناإلى مايمكن تسميته بمشكلة الرواية المحلية.. حيث استسهال كتابتها واعتبارها مجردسرد نثري لأحداث متنوعة مطعمة ببعض الفضائحيات ،ومدفوعةبرغبة محمومة للكشف عما هو مستور ، وهتك ماهو محضور ،وبالتالي لايزيدالأمر في حقيقته عن كونه إفشاء أسرارذوات متمردة ، وبوح نفوس مختنقة بضغوط داخلية وخارجية في مجتمع قامع مسيطر.. .
ولأن الرواية تأتي في إطار الكتابة الكاشفة فهي تسعى إلى تسليط الضوء القوي على المناطق المعتمة في أي مجتمع، وتكون أكثر إثارة إذاسلطت الأضواء الكاشفة على خفايا مجتمع محافظ شكًَل أسطورتَه الخاصة به وانغلق على نفسه فيمايسمى بالخصوصية إلإجتماعية لعقود طويلة،حيث الخصوصية ترتكز في معظم الأحوال على عالم المرأة السري باعتبارهاالحاضنة الأولى لنواة المجتمع ، وحلقته المحورية ؛لذا فإن بعض الكتاب يكون هدفهم من الكتابة ـالروايات التي صدرت أخيرا ـ هدم جدران الخصوصية ، وتدنيس ماهومقدس ، واختراق أبواب المحضورات ، وبهذا المعنى ينصب الإهتمام على تصوير حياة المرأة في هذه المجتمعات وعلى علاقتها بالرجل بشكل خاص،مع الإصرارعلى تحطيم الهالة المحيطة بها ،ونزع كل رموزالنقاء والطهورية عنها.
ونظرا لأن الرواية تجسيد جمالي فني يعتمد على اللغة والتعبير عبرالتمثيل السردي ، فإن هذا التجسيد يتحقق من خلال عناصر متعددة : كالشخصية الروائية والفضاء والإيقاع والأحداث والحوار وغير ذلك ولكن تبقى الشخصية الإنسانية أهم مكونات الرواية كوسيط للفكرة، ووسيلة ناجحة لإيصال التجربة الإنسانية التي تعكس موقف الكاتب وخبراته .
وبما أن الشخصية يأتي اختيارها لتمثل تجربة ذاتية متكاملة أوجزءا منها ، أوتكون شخصية مستلهمة من التراث ، أوشخصيات، متخيلة أو محورة يختارها الكاتب من المجتمع ويكونها بحيث تتناسب والرسالة التي يبثها عبرها ، وبالتالي فهي تعبيرعن فكرهذا الكاتب وموقفه تجاه واقعه كما تكشف عن مدى فهمه لجمال الشكل الروائي المستخدم لتوصيل ميوله الفكرية وقيمه الأخلاقية ومعاييره الجمالية ورؤاه الخاصة.
والشخصية غالبا تكون من بين شخصيات المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب ، ومن الطبيعي أنه لاتوجد نماذج معينة ثابتة تحدد صفات أفراد مجتمع ما،وسماتهم وخصائصهم كسمات وخصائص ثابتة لاتتغير ولاتتيبدل ، ولكن هناك خصائص متقاربة أو لها سمات متشابهة في المجتمع ؛ بحيث تكوِّن فكرة عن ملامح أفراد مجتمع الروائي وتركيبتهم الثقافية والإجتماعية ومواقفهم إزاء الظروف المختلفة ...
يقودنا هذا إلى الطابع الذي يطبع أفراد مجتمعنا . وعلى الخصوص طابع وشكل المرأة كماتمثلها الرواية المحلية وتشكلها كنتاج واقعي عام موجود في مجتمعنا، أو في حياةالكتاب الذين يصورنها بهذا الشكل أو ذاك.
بصفة عامة تتمثل المرأة للرجل الشرقي والعربي بشكل خاص كرمز أنثوي لكل ماهو جميل ورقيق زوجة يسكن إليهاأوحبيبة يفتنه هواها. وكرمز أحيانا للغدروالتقلب والخديعة إن هي تخلت عن عاشق مفتون من أجل زوج مضمون.
الرواية العربية في العالم العربي تجعل من جسد المرأة محورا تتمركز حوله العلاقات الخاصة بالاحداث والأفعال والوقائع وتهتم بشكل ضمني بالجسد بوصفه هوية أنثوية ، وبمايحاط به هذا الجسد من قيود وموانع وحواجز ،باعتباره رمزا للشرف والنقاء والطهارة . بالإضافة إلى أن قيمة المرأة الحقيقية تقاس بمدى أنثويتها ، وامتلاكها لجسد تتمثل فيه المواصفات الجمالية التي يطمح إليها الرجل في الأنثى ، في حين أن قيمتها الأخلاقية تقدرمن حيث محافظتها على هذا الجسد أو التفريط فيه، ولاتتمثل في قيمتها ككيان إنساني متفاعل قادرعلى التفكير ويتحمل دورا ومسؤوليات في بناء المجتمعات الإنسانية ،ولاتتجسدقيمتها الأساسية كحافظة للنسل البشري ودافعته لعجلة التقدم الحضاري في جميع الأمم.
نظرة المجتمع العربي للمرأة نظرة تعسفية حذرة متوجسة ، فهل عملت الكاتبة العربية على تغيير هذه النظرة للمرأة من خلال كتاباتها ..وهل نجحت في ذلك ... وماذا قدمت الكاتبة لنا السعودية من خلال هذا الكم الهائل من الروايات المحلية التي صدرت مؤخرا .. وكان للسعوديات دورهن في هذه العملية الإنتاجية ؟
لدينا أمثلة منتزعة من بعض الروايات المحلية لكاتبات أثبتن حضورهن في مجال الكتابة الروائية لنرى كيف صورن المرأة في رواياتهن.
1- رواية ليلى الجهني الفردوس اليباب ، صورةالمثقفة التي لم يحمها علمها وثقافتهامن والوقوع في ماتقع فيه أي فتاة غريرة ساذجة ..
2- في جاهلية الفتاة المتعلمة المغلوبة على أمرها حيث لايمكنها تحقيق رغبتها في الإقتران ممن تحب ، الرافضةلأفعال الأخ المسيطر ووالتافرة من أعراف الجتمع المتعالية المتمسكة بالعنصرية،.. المتحدية للتقاليد بالبقاء مع الحبيب المحتضر وإن كان تحديا سلبياعلى أي حال.
3- زينب حفني تقدم المرأة بشكل صارخ مستفز والرجل متهم وحش خائن فهو يعتدي على المرأة في طفولتها ، ويتحكم فيها في شبابها ويفرض وصايته الجائرة عليها في جميع مراحل حياتها ، وهويتسلى بها حين يرغب فيها ثم يتركها لعدم ثقته بها. ...وهكذا...
النساء في رواياتها بجانب أنهن مغوَِيَات فهنَّ مغوٍِيات ، نساء جامحات ينتقمن لأنفسهن مما يجدن أنه جوروظلم واقع عليهن بفساد أخلاقي يحولهن إلى مستهترات فاسدات .. يمارسن علاقات مستهجنة كالمثلية الجنسية ، ويغامرن بتعدد العلاقات بشكل عابث وماجن.. وبشكل عام فهي تغامر بخلق نماذج للمرأة المشاكسة والمتمردة والفاسدة لإرساء خطاب مناهض للخطاب الذكوري إذ لاوسيلة للنضال ضده إلا بكتابة جريئة متحدية .
4- قماشة العليان تصور النساء في رواياتها شاكيات باكيات حزينات تعيسات بسبب جبروت الرجال ومهما تغيرت أحوالهن ومهما تعلمنَ يبقين شخوصا غارقة في الخنوع والانهزامية، وفقدان الذات.
5- رجاء الصانع في روايتها بنات الرياض التي أثارت ضجة كبرى
تسوق لنا قصص أربع شابات من أسر مرموقة وثرية .. عشرينيات منعمات مرفهات وهن بحكم ظروف المجتمع وعاداته ممنوعات من حرية قيادة السيارات لاخيار لهن في نوع التعليم الذي يتلقينه ،محرومات من الحصول على الوظيفة التي يرغبن بها ،ولا فرصة لديهن للتعرف بشكل جيد على الزوج قبل عقد القران .. ومع ذلك فهن يمارسن كل أنواع المحضورات كالشراب وممارسة العلاقات مع الشباب دون خوف أو قلق... ويتحدثن عن الشذوذ الجنسي والعلاقات مع الرجال ببساطةودون تحرج ..
نماذج مشوهة لفتيات يعشن في الرياض بعقليات أجنبية . نماذج موجودة ولكنهالاتمثل الصورة الحقيقية للفتاة السعودية .
6- نساء بدرية البشر في ( هند والعسكر ) نساء مختلفات :
بعضهن يعشن في زمن حاضر بعقلية الماضي ،وأخريات متحضرات فكريا يعانين من استبداد المجتمع فيتصرفن بطريقتهن ،واحدة تمارس مغامرة تصل إلى حد الجنون ،وأخرى لاتعرف كيف تتعامل منصبها الكبير كمديرة مستشفى وثالثة مطلقة تهرب من خارج البلد مع طبيب أجنبي لتتزوج منه.
نرى أيضا الخادمة العجوز الوفية للأسرة التي استرقَّتها في الماضي .. همزة الوصل بين الماضي والحاضر ،وأم صامتة مسيطرة ومتحكمة في أمور الأسرة كتعويض عن تعاسة عاشتها في زواج أجبرت عليه كطفلة .. هي نموذج مختلف للأم عن القالب التقليدي المألوف لصورة الأم الحنون الطيبة ، ،الأبناء الذكور يفشلون في حياتهم والإبنة الوحيدة تمنع من الكتابة في الصحف من قبل الأخ ثم من قبل الزوج فتختارإسما مستعارا تعبرمن خلاله عن ذاتها المغلوبة تحت نظام هو شبيه بنظام العسكر، اختلافها عن بقية النساء فكريا يجني عليها حيث لايروق للزوج أن تتعامل معه باستقلاليةذهنية فتصبح مطلقة محبطة، ويسهم العمل في استقرار نفسيتها حيث تتعرف عن طريق عملها المختلط بشاب يحبها، وتسافرإلى خارج البلاد لتلحق بالأخ المهاجر حيث تستطيع ممارسة حياتها دون قيود والزواج بمن تحب .
7- بحريات أميمة الخميس الخطاب الروائي مهتم أساسا بتصوير حياة نساء مستقدمات من الخارج كزوجات لإضفاء الحيوية وترطيب حياة الرجال الجافة ، واصدامات الناتجة عن اختلافات طرق المعيشة بين مانشأن عليه وبين مجتمعهن الجديد الذي يعمل على تذويبهن داخل البوتقة الإجتماعية الموجودة ، ومع ذلك نجد حضورا للمرأة المحلية كأم صالح التي مضى نصفها الأطيب، والزوج الذي لم يعد له فيها غرض قيسلمهالها مفاتيح خزينة المؤونة وينشغل بالزوجات الجديدات ...الزوجة موضي التي تتباهى بجمال ابنتها كتعويض عن شعورها بالنقص لقلة جمالها وفشلها في منافسة غريمتها الشامية المستحوذة بشكل شبه كلي على الزوج بجمالها وأنوثتها.. قماشة المطلقة التي تعوض تخلي الزوج صاحب الجاه والمنصب عنها رغم جمالها بالإنغماس في علاقات سرية محرمة كإنتقام لنفسها .
ونموذج جديد للمرأة المتعلمة الواثقة من نفسها التي لاتشغل نفسها بمراقبة رجلها العابث ( متعب ) ولاتلقي بالا لملاحقته لزوجات جيرانه الشاميات المختلفات عن نساء بلده ، ولايقلقهااستيلاء امرأة أخرى عليه إعتزازا بمكانتها،وحصولها على شهادات عليا تمكنها من نيل مركز عالٍ في البلد .. صورة متميزة ولكنهاجاءت بشكل سريع وعابر .
8- رجاء عالم تقدم لنا نماذج مختلفة لنساء قادرات على التحكم بزمام حياتهن دون اهتمام برأي المجتمع وتقولاته ... نساء متفلسفات ومتآلفات مع واقعهن الأنثوي ومتفهمات لحاجاتهن ومطالبهن ومايفرضه المجتمع عليهن من قيود . .. مريم بطلة ستر كمثال امرأة واعية تحمل بداخلها إحساساعميقا بذاتها وقدرة على التعامل مع الأمور المحيطة بها بحسم ، وهي تعيش بحسب ما تمليه عليها مبادؤها ، تقرر دائما ماتريد ولاتستسلم لوصاية الآخرين . امرأة تمارس الرفض بوعي تام ودون اهتمام برأي أحد ، بعكس طفول الطيبة التي تتباهى ببدويتها ، ولكنها تقبل العيش مع زوج فاشل ومهووس ببناء عضلاته يحملها على الإغتراب ، ويقنعها بتربية الحيوانات لتوفر المال الذي يحتاجه ليصبح البطل الذي يحلم بأن يكونه ،وحين يطلقها رغم تضحياتها الكثيرة... تعود إلى بلدها لتعيد بناء حياتها من جديد.
بشكل عام نجد أن رجاء عالم هي الأقدرعلى اختراق عالم المرأة الداخلي ،فبطلاتها متوازنات نفسيا وعلى درجة كبيرة من الوعي الداخلي ، يعالجن مشاكلهن بحكمة وبنوع من التفلسف العميق ، نساء يملكن حق اتخاذ القرار رغم كل المعوقات. وهن الأكثر حيوية من بين عشرات الشخصيات النسائية اللواتي صورتهن الكاتبات الأخريات .
أما النماذج الأخرى فتثبت لنا أن المرأة الكاتبة مازالت خاضعة لتأثير الموروث الجمعي بشكل لاواعي ، فهي تصورالمرأة كأنثى ضعيفة خاضعة لسيطرة الرجل عاجزة عن حماية نفسها من ظلمه وتعسفه من ناحية ، كماتجعلها هشة معرضة للسقوط في حمأة الخطيئة إن أهمل الرجل حراستها أومكنها من نيل حريتها .!!!
حتى المرأة المثقفة حين تحضر في كتابات الروائيات المحليات تظهر مضطربة متوترة مشغولة بهمومها الخاصة خاوية لايشغلها في الحياة إلا البحث عن الرجل الذي يفتح لها الأبواب المغلقة .
مشكلة ظهور المرأة بشكل غير إيجابي في الرواية المحلية هي جزء من مشكلة أكبر: حيث الصورةالنمطية للمرأة في الرواية بشكل عام ، كصورة خلقها فكر الرجل الذي ركّب لنفسه صورته الخاصة به ثم ركب للمرأة الصورة التي يحب أن تكون عليها ..بحيث تكون هي الجزء المكمل والممتع لعالمه، وليست جزءا أصيلا من عالم يضم الإثنين معا في تركيب اجتماعي متوازن، وبالتالي فمعظم ما يكتبه الرجال عن المرأة لايعكس المرأة كحقيقة ،وإنما يعكس صورة المرأة كما هي في خيال الرجل الكاتب... وقد فشلت الكاتبة العربية في إضافة أي قيمة إنسانية للمرأة أو إظهارها بشكلها الحقيقي.... وليست مجردامرأة مشغولة بذاتهاالأنثوية.. مهمومة بالبحث عن الذكرالذي يعطيها قيمة وحصانة اجتماعية في عالم يرفض المرأة لذاتها .
الرجل والمرأة في واقع الأمر ليسا خصمين لدودين ، ومابينهما من صراعات مستأصلة وقديمة سببها هيمنة الرجل واعتقاده بدونية المرأة ، وتحدي المرأة ونضالها من أجل تحقيق حلم إنسانيتها،وهو صراع خلقه ذلك التصور عند الرجل للمرأة كأنثى ووسيلة استمتاع وهذه الصورة زرعهاالموروث الجمعي في عقله ووجدانه منذ نشأة وعيه بكينونته . والمرأة الكاتبة غالبا لاتعالج هذه المسببات أوتيحث فيها وفي كيفية تغييرها وإنماهي تتماشى معها .
وبذلك يمكن القول أن الخطاب النسائي السردي الروائي فيه تهميش واضح لصورة المرأة في المجتمع وعدم ترسيخلفكرة كونها كيان مستقل بقيمته الذاتية ورؤيته للأحداث وللتغيرات الكثيرة في مجتمع معاصر متخم بالمشاكل والهموم والقضايا.
والكاتبة العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص بحاجة إلى "خلق وعي جديد للمرأة بذاتها وليس من خلال ما يمثله الرجل لها " كما عبرت الروائية فوزية الرشيد في حوار لها
ونتلمس العذرللكاتبات كون المعالجة الروائية مازالت في أطوارها الأولي ولذا فهي لم تستوعب بعد كيفية تصوير الواقع بشكل جدي ولم تنجح في تجسيد قضاياه الحقيقية ، فهي لاتزال في البدايات الأولى ،وحين يأتي الوقت الذي تتمكن فيه الرواية من التعبيرعن حقيقة حياتنا ستنجح في الغوص في عمق الأشياء وليس فقط ملامسة أسطح هذه الأشياء.
نختتم بقول:
" ماريو بارفاس يوسا" " أن الرواية هي أفضل شيء للإطاحة بحيرتنا وشكوكنا .ونحن نتظرمن روايتنا أن تقدم لنا شيئا من هذا النوع .؟
كما نعول على وجود رواية " تتحمل عبء مساعدتنا على فهم مايحدث في الحياة "حسب رؤية كونديرا
( ورقة عمل في نادي الشرقية الأدبي ) عام 2007
كما أنها "تقول ما لا يمكن أن يُقال بطريقة أخرى "، حسب تعبير كارلوس فوينتيس ،وهي بإتساعها وامتداد عوالمها واشتباكاتها مع تحولات المجتمعات وتغيراته ، وبحكم انفتاحها على كل أنواع التجريب ، تظل أفضل طريقة للبوح وترميم الذات، أوللإحتجاج ضد قوانين مجتمع قامع مسيطر .. هذا يجرُّناإلى مايمكن تسميته بمشكلة الرواية المحلية.. حيث استسهال كتابتها واعتبارها مجردسرد نثري لأحداث متنوعة مطعمة ببعض الفضائحيات ،ومدفوعةبرغبة محمومة للكشف عما هو مستور ، وهتك ماهو محضور ،وبالتالي لايزيدالأمر في حقيقته عن كونه إفشاء أسرارذوات متمردة ، وبوح نفوس مختنقة بضغوط داخلية وخارجية في مجتمع قامع مسيطر.. .
ولأن الرواية تأتي في إطار الكتابة الكاشفة فهي تسعى إلى تسليط الضوء القوي على المناطق المعتمة في أي مجتمع، وتكون أكثر إثارة إذاسلطت الأضواء الكاشفة على خفايا مجتمع محافظ شكًَل أسطورتَه الخاصة به وانغلق على نفسه فيمايسمى بالخصوصية إلإجتماعية لعقود طويلة،حيث الخصوصية ترتكز في معظم الأحوال على عالم المرأة السري باعتبارهاالحاضنة الأولى لنواة المجتمع ، وحلقته المحورية ؛لذا فإن بعض الكتاب يكون هدفهم من الكتابة ـالروايات التي صدرت أخيرا ـ هدم جدران الخصوصية ، وتدنيس ماهومقدس ، واختراق أبواب المحضورات ، وبهذا المعنى ينصب الإهتمام على تصوير حياة المرأة في هذه المجتمعات وعلى علاقتها بالرجل بشكل خاص،مع الإصرارعلى تحطيم الهالة المحيطة بها ،ونزع كل رموزالنقاء والطهورية عنها.
ونظرا لأن الرواية تجسيد جمالي فني يعتمد على اللغة والتعبير عبرالتمثيل السردي ، فإن هذا التجسيد يتحقق من خلال عناصر متعددة : كالشخصية الروائية والفضاء والإيقاع والأحداث والحوار وغير ذلك ولكن تبقى الشخصية الإنسانية أهم مكونات الرواية كوسيط للفكرة، ووسيلة ناجحة لإيصال التجربة الإنسانية التي تعكس موقف الكاتب وخبراته .
وبما أن الشخصية يأتي اختيارها لتمثل تجربة ذاتية متكاملة أوجزءا منها ، أوتكون شخصية مستلهمة من التراث ، أوشخصيات، متخيلة أو محورة يختارها الكاتب من المجتمع ويكونها بحيث تتناسب والرسالة التي يبثها عبرها ، وبالتالي فهي تعبيرعن فكرهذا الكاتب وموقفه تجاه واقعه كما تكشف عن مدى فهمه لجمال الشكل الروائي المستخدم لتوصيل ميوله الفكرية وقيمه الأخلاقية ومعاييره الجمالية ورؤاه الخاصة.
والشخصية غالبا تكون من بين شخصيات المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب ، ومن الطبيعي أنه لاتوجد نماذج معينة ثابتة تحدد صفات أفراد مجتمع ما،وسماتهم وخصائصهم كسمات وخصائص ثابتة لاتتغير ولاتتيبدل ، ولكن هناك خصائص متقاربة أو لها سمات متشابهة في المجتمع ؛ بحيث تكوِّن فكرة عن ملامح أفراد مجتمع الروائي وتركيبتهم الثقافية والإجتماعية ومواقفهم إزاء الظروف المختلفة ...
يقودنا هذا إلى الطابع الذي يطبع أفراد مجتمعنا . وعلى الخصوص طابع وشكل المرأة كماتمثلها الرواية المحلية وتشكلها كنتاج واقعي عام موجود في مجتمعنا، أو في حياةالكتاب الذين يصورنها بهذا الشكل أو ذاك.
بصفة عامة تتمثل المرأة للرجل الشرقي والعربي بشكل خاص كرمز أنثوي لكل ماهو جميل ورقيق زوجة يسكن إليهاأوحبيبة يفتنه هواها. وكرمز أحيانا للغدروالتقلب والخديعة إن هي تخلت عن عاشق مفتون من أجل زوج مضمون.
الرواية العربية في العالم العربي تجعل من جسد المرأة محورا تتمركز حوله العلاقات الخاصة بالاحداث والأفعال والوقائع وتهتم بشكل ضمني بالجسد بوصفه هوية أنثوية ، وبمايحاط به هذا الجسد من قيود وموانع وحواجز ،باعتباره رمزا للشرف والنقاء والطهارة . بالإضافة إلى أن قيمة المرأة الحقيقية تقاس بمدى أنثويتها ، وامتلاكها لجسد تتمثل فيه المواصفات الجمالية التي يطمح إليها الرجل في الأنثى ، في حين أن قيمتها الأخلاقية تقدرمن حيث محافظتها على هذا الجسد أو التفريط فيه، ولاتتمثل في قيمتها ككيان إنساني متفاعل قادرعلى التفكير ويتحمل دورا ومسؤوليات في بناء المجتمعات الإنسانية ،ولاتتجسدقيمتها الأساسية كحافظة للنسل البشري ودافعته لعجلة التقدم الحضاري في جميع الأمم.
نظرة المجتمع العربي للمرأة نظرة تعسفية حذرة متوجسة ، فهل عملت الكاتبة العربية على تغيير هذه النظرة للمرأة من خلال كتاباتها ..وهل نجحت في ذلك ... وماذا قدمت الكاتبة لنا السعودية من خلال هذا الكم الهائل من الروايات المحلية التي صدرت مؤخرا .. وكان للسعوديات دورهن في هذه العملية الإنتاجية ؟
لدينا أمثلة منتزعة من بعض الروايات المحلية لكاتبات أثبتن حضورهن في مجال الكتابة الروائية لنرى كيف صورن المرأة في رواياتهن.
1- رواية ليلى الجهني الفردوس اليباب ، صورةالمثقفة التي لم يحمها علمها وثقافتهامن والوقوع في ماتقع فيه أي فتاة غريرة ساذجة ..
2- في جاهلية الفتاة المتعلمة المغلوبة على أمرها حيث لايمكنها تحقيق رغبتها في الإقتران ممن تحب ، الرافضةلأفعال الأخ المسيطر ووالتافرة من أعراف الجتمع المتعالية المتمسكة بالعنصرية،.. المتحدية للتقاليد بالبقاء مع الحبيب المحتضر وإن كان تحديا سلبياعلى أي حال.
3- زينب حفني تقدم المرأة بشكل صارخ مستفز والرجل متهم وحش خائن فهو يعتدي على المرأة في طفولتها ، ويتحكم فيها في شبابها ويفرض وصايته الجائرة عليها في جميع مراحل حياتها ، وهويتسلى بها حين يرغب فيها ثم يتركها لعدم ثقته بها. ...وهكذا...
النساء في رواياتها بجانب أنهن مغوَِيَات فهنَّ مغوٍِيات ، نساء جامحات ينتقمن لأنفسهن مما يجدن أنه جوروظلم واقع عليهن بفساد أخلاقي يحولهن إلى مستهترات فاسدات .. يمارسن علاقات مستهجنة كالمثلية الجنسية ، ويغامرن بتعدد العلاقات بشكل عابث وماجن.. وبشكل عام فهي تغامر بخلق نماذج للمرأة المشاكسة والمتمردة والفاسدة لإرساء خطاب مناهض للخطاب الذكوري إذ لاوسيلة للنضال ضده إلا بكتابة جريئة متحدية .
4- قماشة العليان تصور النساء في رواياتها شاكيات باكيات حزينات تعيسات بسبب جبروت الرجال ومهما تغيرت أحوالهن ومهما تعلمنَ يبقين شخوصا غارقة في الخنوع والانهزامية، وفقدان الذات.
5- رجاء الصانع في روايتها بنات الرياض التي أثارت ضجة كبرى
تسوق لنا قصص أربع شابات من أسر مرموقة وثرية .. عشرينيات منعمات مرفهات وهن بحكم ظروف المجتمع وعاداته ممنوعات من حرية قيادة السيارات لاخيار لهن في نوع التعليم الذي يتلقينه ،محرومات من الحصول على الوظيفة التي يرغبن بها ،ولا فرصة لديهن للتعرف بشكل جيد على الزوج قبل عقد القران .. ومع ذلك فهن يمارسن كل أنواع المحضورات كالشراب وممارسة العلاقات مع الشباب دون خوف أو قلق... ويتحدثن عن الشذوذ الجنسي والعلاقات مع الرجال ببساطةودون تحرج ..
نماذج مشوهة لفتيات يعشن في الرياض بعقليات أجنبية . نماذج موجودة ولكنهالاتمثل الصورة الحقيقية للفتاة السعودية .
6- نساء بدرية البشر في ( هند والعسكر ) نساء مختلفات :
بعضهن يعشن في زمن حاضر بعقلية الماضي ،وأخريات متحضرات فكريا يعانين من استبداد المجتمع فيتصرفن بطريقتهن ،واحدة تمارس مغامرة تصل إلى حد الجنون ،وأخرى لاتعرف كيف تتعامل منصبها الكبير كمديرة مستشفى وثالثة مطلقة تهرب من خارج البلد مع طبيب أجنبي لتتزوج منه.
نرى أيضا الخادمة العجوز الوفية للأسرة التي استرقَّتها في الماضي .. همزة الوصل بين الماضي والحاضر ،وأم صامتة مسيطرة ومتحكمة في أمور الأسرة كتعويض عن تعاسة عاشتها في زواج أجبرت عليه كطفلة .. هي نموذج مختلف للأم عن القالب التقليدي المألوف لصورة الأم الحنون الطيبة ، ،الأبناء الذكور يفشلون في حياتهم والإبنة الوحيدة تمنع من الكتابة في الصحف من قبل الأخ ثم من قبل الزوج فتختارإسما مستعارا تعبرمن خلاله عن ذاتها المغلوبة تحت نظام هو شبيه بنظام العسكر، اختلافها عن بقية النساء فكريا يجني عليها حيث لايروق للزوج أن تتعامل معه باستقلاليةذهنية فتصبح مطلقة محبطة، ويسهم العمل في استقرار نفسيتها حيث تتعرف عن طريق عملها المختلط بشاب يحبها، وتسافرإلى خارج البلاد لتلحق بالأخ المهاجر حيث تستطيع ممارسة حياتها دون قيود والزواج بمن تحب .
7- بحريات أميمة الخميس الخطاب الروائي مهتم أساسا بتصوير حياة نساء مستقدمات من الخارج كزوجات لإضفاء الحيوية وترطيب حياة الرجال الجافة ، واصدامات الناتجة عن اختلافات طرق المعيشة بين مانشأن عليه وبين مجتمعهن الجديد الذي يعمل على تذويبهن داخل البوتقة الإجتماعية الموجودة ، ومع ذلك نجد حضورا للمرأة المحلية كأم صالح التي مضى نصفها الأطيب، والزوج الذي لم يعد له فيها غرض قيسلمهالها مفاتيح خزينة المؤونة وينشغل بالزوجات الجديدات ...الزوجة موضي التي تتباهى بجمال ابنتها كتعويض عن شعورها بالنقص لقلة جمالها وفشلها في منافسة غريمتها الشامية المستحوذة بشكل شبه كلي على الزوج بجمالها وأنوثتها.. قماشة المطلقة التي تعوض تخلي الزوج صاحب الجاه والمنصب عنها رغم جمالها بالإنغماس في علاقات سرية محرمة كإنتقام لنفسها .
ونموذج جديد للمرأة المتعلمة الواثقة من نفسها التي لاتشغل نفسها بمراقبة رجلها العابث ( متعب ) ولاتلقي بالا لملاحقته لزوجات جيرانه الشاميات المختلفات عن نساء بلده ، ولايقلقهااستيلاء امرأة أخرى عليه إعتزازا بمكانتها،وحصولها على شهادات عليا تمكنها من نيل مركز عالٍ في البلد .. صورة متميزة ولكنهاجاءت بشكل سريع وعابر .
8- رجاء عالم تقدم لنا نماذج مختلفة لنساء قادرات على التحكم بزمام حياتهن دون اهتمام برأي المجتمع وتقولاته ... نساء متفلسفات ومتآلفات مع واقعهن الأنثوي ومتفهمات لحاجاتهن ومطالبهن ومايفرضه المجتمع عليهن من قيود . .. مريم بطلة ستر كمثال امرأة واعية تحمل بداخلها إحساساعميقا بذاتها وقدرة على التعامل مع الأمور المحيطة بها بحسم ، وهي تعيش بحسب ما تمليه عليها مبادؤها ، تقرر دائما ماتريد ولاتستسلم لوصاية الآخرين . امرأة تمارس الرفض بوعي تام ودون اهتمام برأي أحد ، بعكس طفول الطيبة التي تتباهى ببدويتها ، ولكنها تقبل العيش مع زوج فاشل ومهووس ببناء عضلاته يحملها على الإغتراب ، ويقنعها بتربية الحيوانات لتوفر المال الذي يحتاجه ليصبح البطل الذي يحلم بأن يكونه ،وحين يطلقها رغم تضحياتها الكثيرة... تعود إلى بلدها لتعيد بناء حياتها من جديد.
بشكل عام نجد أن رجاء عالم هي الأقدرعلى اختراق عالم المرأة الداخلي ،فبطلاتها متوازنات نفسيا وعلى درجة كبيرة من الوعي الداخلي ، يعالجن مشاكلهن بحكمة وبنوع من التفلسف العميق ، نساء يملكن حق اتخاذ القرار رغم كل المعوقات. وهن الأكثر حيوية من بين عشرات الشخصيات النسائية اللواتي صورتهن الكاتبات الأخريات .
أما النماذج الأخرى فتثبت لنا أن المرأة الكاتبة مازالت خاضعة لتأثير الموروث الجمعي بشكل لاواعي ، فهي تصورالمرأة كأنثى ضعيفة خاضعة لسيطرة الرجل عاجزة عن حماية نفسها من ظلمه وتعسفه من ناحية ، كماتجعلها هشة معرضة للسقوط في حمأة الخطيئة إن أهمل الرجل حراستها أومكنها من نيل حريتها .!!!
حتى المرأة المثقفة حين تحضر في كتابات الروائيات المحليات تظهر مضطربة متوترة مشغولة بهمومها الخاصة خاوية لايشغلها في الحياة إلا البحث عن الرجل الذي يفتح لها الأبواب المغلقة .
مشكلة ظهور المرأة بشكل غير إيجابي في الرواية المحلية هي جزء من مشكلة أكبر: حيث الصورةالنمطية للمرأة في الرواية بشكل عام ، كصورة خلقها فكر الرجل الذي ركّب لنفسه صورته الخاصة به ثم ركب للمرأة الصورة التي يحب أن تكون عليها ..بحيث تكون هي الجزء المكمل والممتع لعالمه، وليست جزءا أصيلا من عالم يضم الإثنين معا في تركيب اجتماعي متوازن، وبالتالي فمعظم ما يكتبه الرجال عن المرأة لايعكس المرأة كحقيقة ،وإنما يعكس صورة المرأة كما هي في خيال الرجل الكاتب... وقد فشلت الكاتبة العربية في إضافة أي قيمة إنسانية للمرأة أو إظهارها بشكلها الحقيقي.... وليست مجردامرأة مشغولة بذاتهاالأنثوية.. مهمومة بالبحث عن الذكرالذي يعطيها قيمة وحصانة اجتماعية في عالم يرفض المرأة لذاتها .
الرجل والمرأة في واقع الأمر ليسا خصمين لدودين ، ومابينهما من صراعات مستأصلة وقديمة سببها هيمنة الرجل واعتقاده بدونية المرأة ، وتحدي المرأة ونضالها من أجل تحقيق حلم إنسانيتها،وهو صراع خلقه ذلك التصور عند الرجل للمرأة كأنثى ووسيلة استمتاع وهذه الصورة زرعهاالموروث الجمعي في عقله ووجدانه منذ نشأة وعيه بكينونته . والمرأة الكاتبة غالبا لاتعالج هذه المسببات أوتيحث فيها وفي كيفية تغييرها وإنماهي تتماشى معها .
وبذلك يمكن القول أن الخطاب النسائي السردي الروائي فيه تهميش واضح لصورة المرأة في المجتمع وعدم ترسيخلفكرة كونها كيان مستقل بقيمته الذاتية ورؤيته للأحداث وللتغيرات الكثيرة في مجتمع معاصر متخم بالمشاكل والهموم والقضايا.
والكاتبة العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص بحاجة إلى "خلق وعي جديد للمرأة بذاتها وليس من خلال ما يمثله الرجل لها " كما عبرت الروائية فوزية الرشيد في حوار لها
ونتلمس العذرللكاتبات كون المعالجة الروائية مازالت في أطوارها الأولي ولذا فهي لم تستوعب بعد كيفية تصوير الواقع بشكل جدي ولم تنجح في تجسيد قضاياه الحقيقية ، فهي لاتزال في البدايات الأولى ،وحين يأتي الوقت الذي تتمكن فيه الرواية من التعبيرعن حقيقة حياتنا ستنجح في الغوص في عمق الأشياء وليس فقط ملامسة أسطح هذه الأشياء.
نختتم بقول:
" ماريو بارفاس يوسا" " أن الرواية هي أفضل شيء للإطاحة بحيرتنا وشكوكنا .ونحن نتظرمن روايتنا أن تقدم لنا شيئا من هذا النوع .؟
كما نعول على وجود رواية " تتحمل عبء مساعدتنا على فهم مايحدث في الحياة "حسب رؤية كونديرا
( ورقة عمل في نادي الشرقية الأدبي ) عام 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق