الاثنين، 7 نوفمبر 2011

الإبداع الفنِّي..


في ميدان التحليل النفسي حظي تفسير مفهوم الإبداع الفني باهتمام كبير من علماء النفس المشهورين وأهمهم فرويد ويونج وناجل …… فرويد وهو أهم المحللين النفسين وأول من فسر الفن على  أنه وسيلة لتحقيق رغبات الشخص المبدع له في عالم الخيال وذلك لعدم قدرته على تحقيق هذه الرغبات والنوازع في الواقع ولذلك فإن الفنان يلجأ إلى عمليات التخيل ليحقق من خلالها طموحاته ورغباته الدفينة من خلال ما يتمتع به من مواهب وقدرات .

ومن أهم ما ارتكز عليه فرويد في تحليلاته لفكرة الإبداع الفني هو الاعتماد على نظرياته عن الكبت الذي يقصد به إخفاء المشاعر وقمع الغرائز المختلفة والقمع للرغبات التي تواجه من  الدين والمجتمع المحيط  بالتحريم والمنع  والتقييد ؛ وهكذا فإن المرء يضطر إلى كبت مشاعره وعواطفه وغرائزه في أعماق نفسه وإخراجها من منطقة الشعور ، ولكن كل هذه المشاعر والرغبات لا تختفي بمجرد كبتها وإنما تتحول إلى منطقة اللاشعور وتتحول بعد ذلك عند الشخص الذي يملك قدرات إبداعية إلى أعمال فنية أو أدبية أو غير ذلك من منتجات إبداعية .

هذا أولاً ،  أما ثانياً فإنه يعتمد على مبدأ التسامي أو الإعلاء وهي العملية التي يتم من خلالها تهذيب الدوافع الفطرية والبدائية والارتقاء بها عن طريق التعبير الفني أي أن النزعات الإبداعية والفنية إنما هي تجليات أو مظاهر خاصة لعمليات الإعلاء أو التسامي .

بذلك يجعل فرويد من الفن وسيلة لإشباع الرغبات وللتسامي بالذات وتهذيبها عن طريق إنتاج الفن الراقي ويجعل من الخيال منطقة تتوسط بين عالم الواقع المحاط بالرغبات والدوافع الغريزية للإنسان وعالم الخيال الذي يتحقق من خلال التعويض عن هذه الرغبات والنوازع وفيه يشبع الفنان رغباته اللاشعورية ويحققها عن طريق جعل ما يفكر به ويحلم به واقعاً في أعماله الفنية يجلب له اهتمام الآخرين وتعاطفهم وتقديرهم ولكن تفسير طبيعة الموهبة الفنية ذاتها بقيت بالنسبة لفرويد سراً ملغزاً لم يستطع كشفه عما وضح ذلك دون تحفظ

بالنسبة ليونج الذي كان أصلاً من تلاميذ فرويد ثم اختلف معه في كثير من الآراء والتحليلات فقد اهتم كثيراً بمسألة الإبداع مثل فرويد وإن كان قد توصل إلى نتيجة أخرى هي أن الخبرات البدائية الأولى هي مصدر إبداع الفنان وهذه الخبرات تعتمد على عملية الاختزان التي يملكها الفنان بداخله نتيجة لتكوم خبرات وموروثات عديدة سابقة ورثها من مجتمعه الذي يعيش فيه وهي ما يسميها يونج " بالعقل الجمعي " أو " باللاشعور الجمعي " الذي هو في رأيه جماع حياة الجنس البشري والذي يشتمل على الأساطير والأفكار والدوافع والصور الخيالية التي يرى أنها تتجدد عبر الأجيال وأنها تترك آثارها على شكل وتحتوي الجنس البشري كله وسبب الإبداع الفني الممتاز هو كما يؤكد نتيجة لتقلقل اللاشعور الجمعي في فترات الأزمات الاجتماعية مما يقلل من اتزان الحياة النفسية لدى الفنان ويدفعه لمحاولة الحصول على استعادة اتزانه النفسي عن طريق الانغماس في انتاج عمل فني معبر وهو في أعماله الفنية يسقط شعوره بالقلق وعدم الاتزان على شكل رموز وهو يقول عن ذلك ( إن الرمز هو أفضل صيغة ممكنة للتعبير عن حقيقة مجهولة نسبياً )

وتلعب الأحلام والرموز لدى يونج أهمية كبيرة  في دراسة الفنون الإنسانية ..ويرى أن الحلم يعبر عن شيء خاص يحاول اللاوعي أن يقوله ، وصور الحلم هي هي صور رمزية لاتصرح بالواقع بطريقة مباشرة بل تعبر عن المقصود منه بشكل غير مباشر باستخدام المجاز.¨

ويؤكد يونج على أن الفنان الأصيل يطلع على مادة اللاشعور الجمعي بالحدس الذي يتكون بداخله .

إن النشاط الإبداعي في رأيه لا يمكن تعليله كنشاط وإنما يمكن فهمه من خلال مظاهره العديدة والشعور به بطريقة مبهمة أي أنه توقف مثل فرويد عند مسألة تفسير معنى الإبداع فلم يتمكن من تفسيرها وتوضيحها .

وقد اهتم يونج بجانب  الحياة الحضارة الإنسانية المعلصرة ، كما اهتم بالماضي على حساب الحاضر  ، وبالفرد كبوتقة للمجتمع أكثر من اهتمامه بالمجتمع كبوتقة لجميع الأفراد¨

أما الإبداع كما يراه وينكوت Winnicot  (1897 ـ 1971 ) هو أن تأتي للوجود بفكرة جديدة أو جماع جديد . والعملية الإبداعية عنده تنطوي على محاكاة القدرة الطبيعية في الحياة الأولى . وفي الظاهرة الإبداعية يتم غالباً التركيز على عنصري الابتكار والجدة بمعنى عدم تكرار العمل ذاته بين المبدعين بنفس الطريقة أو حتى تكرار المبدع لنفس العمل . إن الإبداع يختلف عن عملية النقل الكامل دون تجديد أو تنويع لما هو موجود في الطبيعة أصلاً أو في أعمال المبدعين الأولين .. قد يكون النقل جميلاًً ومعبراً ولكنه لا يدل على إبداع أو أصالة لدى الناقل له ذلك أن المهارات التقنية والحرفية قد تمكن الفرد من عملية نقل أي عمل آخر ومحاكاته بصورة لا تصدق كما يفعل مزورو اللوحات الثمينة ولكن هذه المحاكاة التامة لا تنم عن إبداع شخصي لدى المقلد وإنما تدل على مهاراته كمحترف لهذا النوع من التقليد والمحاكاة .. ذلك أن عملية الإبداع تعتمد على ما يختزنه الفنان من مشاعر وطاقات وقدرة على الحدس .. وما يتمتع به من خيال واسع قد لا يستطيع المبدع إفراغ جميع طاقاته في عمل واحد وقد  يمنعه شيء ما من التعبير بحرية عن ما يريد التعبير عنه ولكن ذلك لا يمنع من الشعور بأن لدى هذا المبدع ما يريد أن يقوله أو يعبر عنه .

إن المبدع وهو يمارس عمليته الإبداعية إنما يعبر عن ذاته وعن موقفه تجاه الحياة والطبيعة والأحداث يعبر عن صراعاته ورغباته وآلامه وأحلامه .. وطموحاته .. هو يعبر عن ذلك عن طريق استعماله لأدواته التعبيرية التي أجادها وتمكن منها بقدراته الذاتية وبتمرسه عليها والاستفادة من خبرة الآخرين ممن سبقوه في هذا المضمار .

والمبدع كمبدع تتكون لديه مواهبه وقدراته الإبداعية نتيجة لظروف متعددة إذ أن المبدع ما هو إلا نتيجة أو حصيلة لعوامل وراثية واجتماعية ونفسية وتاريخية تساهم كلها في بزوغ هذا المبدع ووجوده وهو بالتالي لا يستطيع أن يعزل نفسه عن طبقته الاجتماعية رغم شعوره الذاتي بالتفرد والتميز وقد يتعرض هذا الفرد المبدع إلى عوامل عديدة تحد من إبداعه وقد تؤدي إلى انسحابه وانطواءه على ذاته واهماله لقدراته الإبداعية وهذه أكبر خسارة يصاب بها المجتمع الذي ينشأ به الفرد ذلك أن الفرد المبدع هو أحد عوامل رقي مجتمعه وكلما ازداد عدد المبدعين في مجتمع ما كلما ارتفع مستواه وازدادت قيمته في نظر المجتمعات الأخرى وقد لا يحارب المجتمع الفرد المبدع صراحة ولكن يضع قيوداً كثيرة على مجال إبداعه مما يؤدي إلى تثبيط همته .. والحد من حماسه ونشاطه الإبداعي وقد تؤثر بعض الظروف الخاصة بالمبدع أو الأزمات الاجتماعية المتعددة على حالة المبدع النفسية فيصاب بالاكتئاب أو بعض الأمراض النفسية خاصة لدى المبدعين الحقيقيين الذي قد يصل بهم عبقريتهم في مجال الإبداعات المختلفة إلى حافة الجنون أو إلى دفعهم إلى أنواع مختلفة من الأمراض النفسية أو العصبية . وبعضهم قد يتخلص من حياته أو يحاول تدميرها بطريقة أو بأخرى والأمثلة على جنون بعض المبدعين أو غرابة تصرفاتهم أو على نهايتهم التعيسة ليست بعيدة أو غريبة عنا .

وهذا يجعلنا نفكر في موضوع العلاقة بين الإبداع والاضطرابات النفسية والجنون فمهما قيل من أن هذه الاضطرابات النفسية هي التي تؤدي إلى الإبداع أو أن الإبداع عملية قد تؤدي بالمبدع إلى الجنون فإن هذه الافتراضات لا يمكن أن تكون حقيقية ففي مجموعة من الدراسات الحديثة الشاملة بهذه القضية استبعد كيسيل (1989) تماماً أي علاقة ارتباطيه بين الإبداع وبين المرض النفسي ، بينما يفترض سلايدر (1979) أن وجود الاضطراب النفسي في الشخصية المبدعة لا يمكن أبداً أن يؤدي إلى الإبداع أو يكون سبباً له ولكن قد يساعد على اختيار المادة الإبداعية أو يعطي نكهة لها وذلك لأن المعاناة النفسية تسهم في توضيح الصورة بإفراغ الشخصيات الانفعالية المتوهجة .

ولكن الإبداع ذاته لا يمكن أن يصدر عن حالات الضعف والوهن والاختلاطات الذهنية إن الإبداع إنما هو نتاج لحالة من القوة والصحة والتكاسل النفسي .

لعل ما يدفع معظم المبدعين إلى الشعور بنوبات الاكتئاب والاضطرابات النفسية المختلفة التي قد تتطور إلى حالات حادة مثل فان جوخ وهيمخواى وغيرهم من المبدعين الذين انتهت حياتهم بالانتحار هرباً من حالات الاكتئاب الشديد . إنما هو ما يشعر به الفرد من مشاعر العزلة والوحدة في مجتمع قد يرفض وجود مثل المبدع أو لا يحتفي بإبداعاته أو تناقض مبادئه وأفكاره مع أفكار المبدع مما يجعله يشعر بالاغتراب والقلق وأحياناً الاضطهاد وعدم الاعتراف بمواهبه .

أن عدم التوافق بين المبدع ومجتمعه هي إحدى القضايا المهمة التي تلعب دوراً كبير في التأثير على المبدع والتي قد تعطل نشاطه أو تحد منه أو تصيبه بحالة من الاكتئاب الشديد . وقد يكون للمبدع من الشجاعة الفكرية ما يمكن من التغلب على كل حالات القهر والاضطهاد التي تمارسها بعض المجتمعات ــ كالأنظمة الشيوعية السابقة كمثال ــ أو عدم الفهم والتقبل من المجتمع بسبب غرابة المبدع وتفرده بصفات وأفكار مختلفة عن ما تعود عليه الآخرين حينها قد يستطيع هذا المبدع أن يواصل إنتاجه بهدوء وسلام . ولعل حساسية المبدع الشديدة وإحساسه بتفوقه على الآخرين وتفرده وكذلك مزاجه المتقلب هو الذي يوحي إليه بعدم الشعور بالراحة أو الاغتراب وهو بين أهله وجماعته .. وهذه قضية أخرى يعاني المبدع من جرائها .

إن أحسن ما يقوم به المبدع هو أن يتفرغ لإبداعاته ويكرس جهده من أجل توطيد رسالته الإبداعية وعليه أن يقيم على علاقة توازنية جيدة بينه وبين المتلقين في مجتمعه .







در. شاكر عبد الحميد ، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 1995،67،66

¨ نفس المرجع السابق ص67

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة الإلكترونية