السبت، 30 يونيو 2012

مفهوم الإبداع وتعريفه

لقد ظهر مفهوم الإبداع في أوروبا أثناء عصر النهضة للإشارة إلى كل ماهو أصيل ومبتكر ومثمر في جميع المجالات . وقد أدىالإختلاف في تعريف الإبداع إلى عدم القدرة على وضع تحديد معين له. يشمل الإبداع الإبتكار والتجديد كما يشمل الأصالة وأن يكون للعمل المنتج فائة أو قيمة سواء أكانت مادية أم ذهنية  بمعنى أنالعمل الإبداعي يضيف فكرة أو يقدم شيئا خاصا له جمالياته وتميزه الخاص به. ونحاول الآن عرض بعض التعريفات التي وضعها بعض الدارسين للإبداع وأسبابه وسماته وسيكون ذلك انطلاقا من فكرة الإبداع العامة التي تشير إلى الإبداع على أنه  مجموعة من العمليات العقلية والمزاجية والدافعية والإجتماعية التي تؤدي إلى الحلول والأفكار والتصورات والأشكال الفنية والنظريات أو المنتجات التي تكون فريدة وجديدة. ومن هنا تتنوع التعريفات للإبداع حسب  نقاط التركيز التي يهتم العلماء والدارسون بها في عملية الإبداع  فمنهم من يركز على العملية العقلية نفسها التي تؤدي إلى الإبداع ومنهم  من  يركز على نوع الإبداع ومظاهره، ويسعى البعض إلى إسناد الإبداع إلى سمات شخصية  يتميز بها المبدع أو إلى إعتبار الإبداع نشاط نفسي سيكلوجي خاص. و لفرايت ) D . S. Wright (عرف الإبداع بأنه " حالة خاصة من حل المشكلات مع التأكيد على أصالة الحل وقيمته " . بينما عرفه ماكيلر P . Mackerel) ( باعتباره (تعبيراً عن تفاعل معقد بين التفكير الواقعي والتفكير الخيالي) ورأى شتاين  M . Stein)  (  أنه عملية ينتج عنها عمل جديد تقبله جماعة ما في وقت معين على أنه مشبع أو مفيد أو مقنع ) . فرانك باردون F . Baron) ( يعرفه  بأنه طاقة يتم توظيفها للعمل بطريقة بنائية . وهو تعريف ناقص نوعاً ما حيث أن العديد من النشاطات الإنسانية هي طاقات يتم توظيفها للعمل بطريقة بنائية ومع ذلك فهي ليست نشاطات إبداعية . ويشدد واتيفليد  ( R . Whitfield) على أهمية أن تكون الفكرة إبداعية وجديدة وخالية من التعقيد وينظر ستيورات جولان   (S . Gallon) للإبداع على أنه ( سمة موزعة توزيعاً إعتدالياً، ويرجعه إلى استعداد شخصي وعملية داخلية وأسلوب للحياة . هذا هو تفسير العلماء فماذا يقول الفلاسفة الذين شغلوا أنفسهم بمسألة الإبداع ونظروا إليها بطرق مختلفة.؟... في كتابه ( نقد الحكم )يفسر كانت(Kant)   الإبداع بأنه عملية طبيعية تخلق قوانينها الخاصة بها ، وأن ألإبداع فعل يخضع لقوانين من صنعه لايمكن التنبوء بها وم ثم لايمكن تعليم الإبداع  تعليما منطقيا. ويصف بيرجسون حالة الإبداع بأنها حالة يكون فيها المبدع في حال من الوحدة الروحية التي تضم الوجود كله بما فيه من بشر وكائنات حية وغير حية. ولعل من أهم التعاريف المبسطة تلخيص رولاند وينكوت ( إن الإبداع هو أن تأتي للوجود بفكرة جديدة أو موضوع جديد) ومن واقع التعريفات العديدة للإبداع نصل إلى عملية الإبداع ذاتها وهي عملية محيرة إلى حد كبير وتتم داخل كيان المبدع متفاعلة مع عوامل عديدة محيطة به تلهب مخيلته وأحاسيسه ، وتقوده في عملية داخلية منظمة إلى أن يصل إلى مرحلة الكشف عن المخبوء على شكل عمل إبداعي  مميز وفي الواقع فإن عملية الإبداع ظلت مجهولة المنشأ حتى أواخر القرن التاسع عشر حين بدأ  فرانسيس جالتون F . Galton (01822-1911) وهو عالم إنجليزي كان من المهتمين بعلم تحسين النسل. بإجراء عدد من  الدراسات المهمة حول العباقرة وأسباب العبقرية المختلفة .. وكان يفكر في إمكانية الحصول على عباقرة ونوابغ ومبدعين عن طريق عملية الإستيلاد وهي عملية تشبه عملية تهجين الأجناس الجيدة في الحيوانات . ومع تطور وسائل علم النفس وأبحاثه لم تعد تلك الدراسات والأبحاث  التي قام بها جالتون مهمة  .   ومع بداية القرن العشرين  ظهر علم النفس التحليلي  على يد سيجموند فرويد الذي اهتم بدراسة مسألة الإبداع من النواحي السيكلوجية ومع الوقت ازداد الاهتمام بمسألة الإبداع من قبل علماء النفس فظهرت طرق عديدة لدراسة ظاهرةالإبداع منها الطرق الكلاسيكية التي تعتمد على دراسة كيفية حدوث عملية الإبداع من خلال دراسة بعض الإنتاجات الإبداعية والكيفية التي تمت بها. أي العمليات الناجحة التي أدت إلى ظهور العمل الإبداعي .     وبكشف فرويد عن منطقة اللاشعور التي كانت مجهولة من قبل فإنه قد أسهم إسهاماً واضحاً في توضيح أسباب الإبداع الفني لدى بعض الكتاب والأدباء والفنانين ، حيث جعله   وحسب نظرية فرويد عن الإبداع فإنه الهروب إلى عالم الخيال  حيث يفشل المبدع في تحقيق أحلامه على أرض الواقع. كما أرجع  فرويد الإبداع إلى  تهذيب للغرائز البدائية والتسامي بها في شكل سلوكيات جديدة ...أي أن النزعات الإبداعية والفنية إنما هي تجليات أو مظاهر خاصة لعمليات الإعلاء أو التسامي وهكذا فإننا نجد أ ن فرويد يرى أن المبدع يلجأ إلى التسامي بنزعاته  وغرائزه  ويحققها عن طريق الخيال  ؛ فالفن لديه  منطقة متوسطة بين عالم الواقع الذي يحبط الغبات وبين عالم الخيال الذي يحققها . وقد اهتم فرويد أيضا بعلاقة الإبداع بالمرض العصابي لدى كثير من المبدعين ، ومن الجدير بالذكر أن عقدة أوديب التي هي إحدى نظريات فرويد في علم النفس  قد استلهم أصلها النظري من شخصية أوديب الأسطورية  في مسرحيتي  الكاتب الإغريقي الشهير"سوفوكليس"  وفي هاتين المسرحيتيين  يقتل أوديب أباه  دون أن يعرف أنه أبوه ثم يتزوج أمه ، وحين يكتشف ذلك يعاقب نفسه ويعاني من آلام هائلة     وقد  عمل فرويد على اعتبار هذه العقدة هي الأساس في كل الإضطرابات العصابية النفسية و في تفسيره للنشاط الفني وغير الفني لدى الأدباء أمثال شكسبير ودوستويفسكي...كما اتخذ منها وسيلة لدراسة أعمال هؤلاء الأباء وأيضا اكتشاف أسباب الأمراض والعلل النفسية لدى كثير من المبدعين. وهكذا فإننا نرى أن أتباع فرويد يعتقدون بقيام علاقة بين الفن والمرض العصبي وبين الإبداع . بينما ينسب أتباع" يونج" عملية الخلق الأدبي إلى أساطير قديمة مختزنة في الذهنية البشرية ومتوارثة عبر الأجيال العديدة يتوارثها الجميع ولكن الفرد المبدع هو الذي يحولها إلى أعمال أدبية فنية خالدة . وقد عمل كارل يونج (1875-  1961)  وهو من تلامذة فرويد على السير في اتجاه سلفه ولكنه  استطاع الوصول إلى نظريات واستنتاجات أخرى  أكثر قيمة حول  بعض المسائل  ومنها مسألة الإبداع حيث استطاع أن يخرج بفوائد كثيرة أكبر مما قدمها سلفه في هذا المجال . كان لإهتمام يونج بالفن والأدب وقراءاته الفلسفية الكثيرة أثره في اهتمامه بالتأمل بالإنسان بصفة خاصة وما ينتج عنه من أفكار وإبداعات ، وقد كانت فكرة يونج عن اللاشعور الجمعي الذي هو جماع حياة الجنس البشري والذي يشتمل على الأساطير والأفكار والدوافع  والصور الخيالية التي يتجدد ظهورها عبر الأجيال وتترك آثارها على شكل ومحتوى الجنس البشري فكرة " اللاشعور الجماعي " تنبع من فكرة وجود مخزون من الميول البشرية والتطلعات والأشكال والأحلام .   فكرة يونج هذه عن  اللاشعور الجمعي ساقته إلى " النماذج العليا " التي قال عنها( أنها التجارب البدائية الأولى التي لايمكن سبر أغوارها وهي تتطلب دائما صورا وتخيلات أسطورية كي تعطيها شكلها الخاص المناسب ، وهذه الخبرات  تحتاج إلى صور غريبة كي تعبر عن نفسها ، هذه الرؤى والتعبيرات عن العقل الجمعي موجودة داخل الجسم يرثها كل فرد ولها طابع بدائي ، وعندما يتمكن الفنان من الرؤية والتعبير عن هذه المشاهد والرؤى فإنه يقوم بالتعالي والإرتقاء من المستوى الكلي الجمعي) . ويقصد يونج بذلك أن الفنان  يصبح بوسلته الإبداعية وكأنه يتحدث كجنس بشري _ وليس كفرد واحد _إلى الجنس البشري كله ،  يونج في ذلك يعتقد أ،  الفنان يكون متلبسا ي بدافع يعمل بداخله ويجعله يبدع  عمله  وهو بهذا العمل يرتقي بنفسه ويقترب من العقل الجمعي .  وذلك باستخدامه للأسطورة أو بالوصول إلى النماذج العليا التي ذكر أنها تنتقل من الأسلاف إلى من يليهم عبر الأجيال العديدة عن طريق الوراثة، والتي تكون نماذج أساسية للتجارب الإنسانية التي تتكرر في عمليات الإبداع الفني سواء أكان شعراً أم نثراً أم فناً من الفنون هذا المخزون الجمعي البشري الذي يحتوي عل كل ماسبق ذكره من صور وأساطير وغيرها هي التي تكون( اللاشعور الجمعي)  وهذا ما ينتقل إلى الأفراد وخاصة العصابيين منهم والفنانين عن طريق التخيل الذهني للأساطير التي كانت تخيم على عقل الإنسان البدائي وأحياناً يتم ذلك عن وعي من خلال عملية الأحلام . وهذا المخزون للأساطير والرموز البدائية يتحول إلى صياغة أدبية أو فنية مما نعتبره " خلقاً فنياً"

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة الإلكترونية